أحمد ذكي.. أبو الكيمياء في مصر (وكأنما كان الخير يسير في ركاب مصر ويجري في نيلها ليتدفق بعد ذلك نبوغا وعبقرية في شرايين أبناءها)
أغلب الظن أن هذا هو ما جال في خاطر الدكتور أحمد ذكي أحد عباقرة مصر
الكبار عندما نظر في أحد أروقة جامعة القاهرة ليبصر صبيا يخط خطواته الأولى
في عالم الكيمياء ذلك العالم السحري الذي خلب لب علماء الدنيا واستولى على
عقولهم .. ولكن الذي استلفت نظر الدكتور أحمد زكي أبو الكيمياء والأدب هو
أن جامعة القاهرة استقبلت غلاما في الخامسة عشر من عمره ليكون طالبا في
كلية العلوم تلك الكلية التي كان أبو الكيمياء عميدا لها قبل أن يكون مديرا
لجامعتها ..لم يستلفت نظره حداثة طالب العلم الصغير وصغر سنه فحسب .. ولكن
وقف مشدوها عندما رأى نباهة ونبوغا لم يرهما من قبل وقلما يتوافران سويا
في شخص واحد ... هذا هو نبت النيل , هذه هي الطيبة والوداعة والأصالة وحدة
الذكاء والبصيرة عندما تختلط بتربة مصر فتنبت لنا عبقرية لا تدانيها عبقرية
.. ومابين أحمد ذكي وسعيد الأحرف كان التلاقي وكان العلم , لا أجد فكاكا
بينهما ولا ألمح انفصالا بين عبقريتهما .
أما عن أحمد زكي فالكل يعرفه.. هذا هو أول عربي يحصل على الدكتوراة في
الكيمياء في منتصف العشرينات من القرن العشرين وأول كيميائي يحصل على عضوية
مجمع اللغة العربية ورئيس تحرير مجلة العربي ذائعة الصيت في حقبة الستينات
إلى منتصف السبعينات وهو بهذه المثابة جمع بين العلم والأدب ليعيد أمجاد
أجداده الرازي والفارابي على مرأى ومسمع من العالم كله ، هذه عبقرية طاف
طيفها أمامنا وبيننا ومازلنا ننهل من معينها
أما عن الغلام فحدث ولا حرج ، ومن عجب أن له من اسمه نصيب فهو محمد سعيد
الأحرف وقد كان بالفعل الأنبغ والأحرف بين كل أقرانه بل في كل جيله وأجيال
سبقته وتلته.
كان الشيخ محمد إبراهيم الأحرف ـ ابن قرية غيتة إحدى قرى محافظة الشرقية
وهي قرية رابضة على ضفاف ترعة الإسماعيلية ـ من شيوخ الأزهر الكبار تلقى
العلم على يد أساطين العلم في الأزهر الشريف ثم ما لبث بعد تخرجه أن امتهن
مهنة التدريس فترقى في مدارجها وأصبح ناظرا للعديد من المدارس في القطر
المصري وكان آخرها مدرسة السكة الحديد في قليوب البلد .. ومن زوجته الأولى
أنجب محمد سعيد في عام ألف وتسعمائة خمسة وثلاثين وكان قد أنجب قبله وبعده
أربعة آخرين من البنات والبنين .. ثم رأى بعد أن تزوجت بناته أن يتزوج ابنه
الشيخ محمد الشبيني وكيل الأزهر الشريف كي تتعهده بالرعاية وتربي له
الولدين الصغيرين فكانت نعم الزوجة لنعم الزوج , ونشأ محمد سعيد في كنف
ورعاية زوجة أبيه التي كانت له أما وملاذا وعقلا وقلبا يحتويه عندما يضيق
به المكان على رحابته.
قفز محمد سعيد قفزات سريعة كأنها الومض في صفوف دراسته وتجاوز أترابه
وسبقهم بسنوات في الصف الدراسي وكان الأول دائما وبسبب تفوقه إلتحق بمدرسة
المتفوقين في المعادي ليحصل على الثانوية العامة وهو من الأوائل البارزين ،
ورغم أن تفوقه كان يضمن له الإلتحاق بكلة الطب إلا أنه آثر أن يلتحق بكلية
العلوم وينخرط في قسم الكيمياء بها فقد كان شغوفا بهذا العلم حتى أنه حول
زاوية من زوايا بيته في قليوب إلى معمل للكيمياء والإختراعات ..
وتحت رعاية الدكتور أحمد زكي مرت بالفتى سنوات الجامعة ليتخرج متفوقا بل في
مقدمة المتفوقين إذ كان الأول على دفعته في عام 1954 .. آنذاك كان الدكتور
أحمد زكي قد أصبح مديرا لمصلحة الكيمياء فانتخب نخبة من صفوة المتفوقين
ليلحقهم بتلك المصلحة حتى ينهض بشأنها ويجعلها منارة للعلم هي المنارة
الأعلى في الشرق كله ، وبزغ نجم محمد سعيد الأحرف وظهرت عبقريته التي لا
تدانيها عبقرية حتى أن الدكتور أحمد زكي طلب منه إلقاء محاضرة عن أحد
أبحاثه المتميزة عن علم التحليل الطيفي وكانت هذه المحاضرة إحدى مفاتيح هذا
العلم المستحدث حيث فتحت المجال لآخرين للولوج في هذا العلم.
بعدها كان من المستوجب أن يحصل محمد سعيد الأحرف على منحة دراسية من إحدى
جامعات النمسا ليحصل على الدكتوراه عن رسالة موضوعها ( التحليل الطيفي
للمواد الإنشائية ) والتي استطاع من خلالها تطوير نظريات التحليل الطيفي
وتنويع مجالاتها بشكل لم يسبقه فيه أحد من علماء الدنيا قاطبة .. حتى قال
له أحد المناقشين ( أمامك المجال لتحصل على نوبل لو أخرجت لنا بحثا آخرا عن
مجال مختلف للتحليل الطيفي ).
وهناك في بلاد الغرب وبعد حصوله على الدكتوراه إستمسكوا به استمساكا وقال
له أستاذه الأمريكي الذي كان على رأس لجنة مناقشة الرسالة ( لو أردت
لأفردنا لك معاملنا وأموالنا لتخرج لنا عبقريتك .. كن معنا فالعلم لا دولة
له ) ولكن الشاب النابه كانت أنسجته قد أشربت من حب هذا الوطن عاد إليه
والأمل يحدوه أن يقدم لبلده بعض ما قدمته له.
ولكنه عاد وكان الدكتور أحمد زكي قد غادر مصلحة الكيمياء ليرأس تحرير مجلة
العربي فينتقل الشاب الشغوف بالعلم إلى مصلحة الكيمياء بالإسكندرية عام
1965.. ثم يعود للقاهرة بعد النكسة ..تلك النكسة التي أصابتنا وأصابته في
مقتل فإذا بجميع مخصصات البحث العلمي تتجه إلى المجهود الحربي وحرب
الإستنزاف وإعادة بناء الجيش المصري ... فأصبحت خزينة مصلحة الكيمياء خاوية
على عروشها واختبأت الأبحاث العلمية في أضابير المكاتب ولم تخرج إلى نور
العلم ليصبح ذلك العالم الفذ مسئولا عن بعض الأعمال الإدارية التي لا علاقة
لها بالعلم والكيمياء.
ومابين نكسة 1967 وسفر الدكتور أحمد زكي للكويت تحطم قلب الشاب الذي كان
مفعما بالأمل ... ومع ذلك خط هذا الرجل بمجهوده وماله ومعمله المستحوذ على
ثلث مساحة بيته العديد من الأبحاث المستحدثة .. ولكن كان لحزب (السطحية
والانتحال والسلب) دوره الأكيد في هدم نفسية الرجل ، فقد قام أحد رؤسائه
الكبار بسرقة بحث علمي من أبحاثه ... بحثا متفردا أخرجته قريحة عبقرية
لأحرف الكيميائيين العرب .. ثم قام هذا الدعي بنسبة البحث لنفسه وبه أصبح
على سدة علماء البلد وعميدا لكلية من كلياتها .. فتجمعت الخطوب على قلب ذلك
الأحرف المنكوب فمات وهو يتجرع الألم بعد أن كان يتنسم الأمل ... رحم الله
محمد سعيد الأحرف عالم القرن فقد مات دون أن يعرفه أحد في منتصف
الثمانينات من القرن العشرين ولم يكن قد بلغ الخمسين من عمره.. مات وفي
قلبه حسرة وفي قلوبنا غصة .. ولكنه رغم أنف أعداء النجاح كان عبقرية نبتت
في أرض مصر
المصدر : موقع موهوبون